الحكمة ٢٥٧: كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه وما ابتلى الله سبحانه أحدا ...
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الحكم » الحكمة ٢٥٧: كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه وما ابتلى الله سبحانه أحدا ...

 البحث  الرقم: 578  المشاهدات: 8109
قائمة المحتويات وقال عليه السلام: كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَمَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ وِمَا ابْتَلَى اللهُ سُبْحَانَهُ أَحَداً بِمِثْلِ الْإِمْلاَءِ لَهُ.
قال الرضي: وقد مَضى هذا الكلام فيما تقدم، إلاّ أن فيه هاهنا زيادة مفيدة.
فصل:
نذكر فيه شيئاً من اختيار غريب كلامه المحتاج إلى التفسير
1. في حديثه عليه السلام: فَإِذَا كَانَ ذلِكَ ضَرَبَ يَعْسُوبُ الدِّينِ بِذَنَبِهِ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ.
قال الرضي: يعسوب الدين: السيد العظيم المالك لأَمور الناس يومئذ، والقزع: قطع الغيم التي لا ماء فيها.
2. وفي حديثه عليه السلام: هذَا الْخَطِيبُ الشَّحْشَحُ.
يريد: الماهر بالخطبة الماضي فيها، وكل ماض في كلام أو سير فهو شحشح، والشحشح في غير هذا الموضع: البخيل الممسك.
3. وفي حديثه عليه السلام: إنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً.
يريد بالقحم المهالك، لأَنها تُقِحمُ أصحابَها في المهالك والمتالف في الأَكثر، ومن ذلك قُحْمَةُ الأَعراب وهو أن تصيبهم السَّنةُ فتتعرّق أموالهم أكل
جميع ما عليه من اللحم.">(1) فذلك تقحّمها فيهم. وقيل فيه وجهٌ آخر: وهو أنها تُقْحِمُهُمْ بلادَ الريف، أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند مُحول البَدْوِ.
4. وفي حديثه عليه السلام: إِذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الْحِقَاقِ فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى.
والنص: منتهى الأَشياء ومبلغ أقصاها كالنص في السير، لأَنه أقصى ما تقدر عليه الدابة، وتقول: نصصت الرجل عن الأَمر، إذا استقصيت مسألته عنه لتستخرج ما عنده فيه، فنص الحقائق يريد به الإِدراك، لأَنه منتهى الصغر، والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبير، وهو من أفصح الكنايات عن هذا الأَمر وأغربها.
يقول: فاذا بلغ النساء ذلك فالعَصَبَةُ أولى بالمرأة من أمها، إذا كانوا مَحْرَماً، مثل الإِخوة والأَعمام، بتزويجها إن أَرادوا ذلك. والحِقاق: مُحاقّةُ الأَم للعصبةِ في المرأة، وهو الجدال والخصومة، وقول كلّ واحدٍ منهما للآخر: أنا أحق منك بهذا، ويقال منه: حاققته حقاقاً، مثل جادلته جدالاً.
وقد قيل: إن نصّ الحقاق بلوغ العقل، وهو الإِدراك، لاَنه عليه السلام إنما أراد منتهى الأَمر الذي تجب فيه الحقوق والأَحكام، ومَن رواه: «نص الحقائق» فإنما أراد جَمْعَ حَقيقةٍ. هذا معنى ما ذكره أبو عُبيد القاسم بن سلام.
والذي عندي: أن المراد بنص الحِقاق ها هنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها وتصرّفها في حقوقها، تشبيهاً بالِحقاق من الإِبل، وهي جمع حِقّةٍ وحِقّ، وهو الذي استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة، وعند ذلك يبلغ إلى الحد الذي يُتمكّن فيه من ركوب ظهره، وَنَصِّهِ في السير، والحقائقُ أيضاً: جمع حِقّةٍ. فالروايتان جميعاً ترجعان إلى معنىً واحدٍ، وهذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولاً.
5. وفي حديثه عليه السلام: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُولُمْظَةً فِي الْقَلْبِ، كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتِ الُّلمْظَةُ.
الُّلمْظَةُ مثل النكتة أو نحوها من البياض، ومنه قيل فرس ألمظ: إذا كان بجحفلته (2) شيء من البياض.
6. وفي حديثه عليه السلام: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ الدَّيْنُ الظَّنُونُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ.
فالظَّنُونُ: الذي لايَعْلَمُ صاحبُهُ أيقبضُه من الذي هو عليه أم لا، فكأنّه الذي يُظَنُّ به، فمرة يرجوه ومرة لا يرجوه. وهذا من أفصح الكلام، وكذلك كلّ أمرٍ تطلبه ولا تدري على أي شيء أنت منه فهو ظَنون، وعلى ذلك قول الأَعشى:
مَا يُجْعَلُ الْجُدُّ الظَّنُونُ الَّذِي
جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الْمَاطِرِ
مِثْلَ الْفُرَاتِيِّ إِذَا مَا طَمَا
يَقْذِفُ بِالْبُوصِيِّ وَالْمَاهِرِ

والجُدّ: البئر، العاديه في الصحراء والظنون: التي لا يُدرى هل فيها ماء أم لا.
7. وفي حديثه عليه السلام: أَنه شيّع جيشاً يغْزِيهِ فقال: اعْذِبُوا اعْذِبُوا: أي أَعرضوا واتركوا.">(3) عَن النِّسَاءِ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
ومعناه: اصدِفوا عن ذكر النساء وشُغُلِ القلب بهن، وامتنعُوا من المقاربة لهنّ، لاَن ذلك يَفُتُّ (4) في عضُد الحميّة، ويقدح في معاقد العزيمة خرقها كناية عن أوْهَنَها.">(5) ويكسِر عن (6) العَدْوِ (7)، وَيلفِتُ عن الإِبعاد في الغزو، وكلُّ من امتنع من شيء فقد أعْذَبَ عنه، والعاذبُ والعَذُوب: الممتنع من الأَكل والشرب.
8. وفي حديثه عليه السلام: كَالْيَاسِرِ الْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزةٍ مِنْ قِدَاحِهِ.
الياسرون القمار.">(8): هم الذين يتضاربون يتضاربون بالقِداح: أي يقامرون بالسهام على النصيب من الناقة.">(9) بالقِداح على الجَزُورِ (10) والفالجُ: القاهرُ الغالبُ، يقال: قد فلج ضرب ونصر ـ: فاز وانتصر.">(11) عليهم وفَلَجَهُم، وقال الراجز: لمّا رأيتُ فالجاً قد فَلَجَا.
9. وفي حديثه عليه السلام: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ.
ومعنى ذلك: أنه إذا عَظُم الخوفُ من العدو واشتد عِضَاضُ الحربِ (12) فَزِعَ المسلمون فَزِع المسلمون: لجؤوا إلى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه.">(13) إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فينزل الله عليهم، النصر به ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه. وقوله: «إذَا احمّر البأس» كناية عن اشتداد الأَمر، وقد قيل في ذلك أقوال أحسَنُها: أنه شبّه حَمْيَ (14) الحرب بالنار التي تجمع الحرارة والحمرة بفعلِها ولونها، وممّا يقوي ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله، وقد رأى مُجْتَلَدَ (15) الناس يوم حُنين وهي حرب هوازنَ: «الآن حَمِيَ الوَطِيسُ» فالوطيسُ: مستوقَدُ النار، فشبه رسول الله صلى الله عليه وآله ما استحرّ القتال.">(16) من جلاد القوم باحتدامِ النار وشدةِ التهابها. انقضى هذا الفصل، ورجعنا إلى سنن الغرض الأَول في هذا الباب.

الهوامش

1- تَتَعَرّق أموالهم: من قولهم تَعَرّقَ فلان العظمَ أي أكل جميع ما عليه من اللحم.
2- الجَحْفَلَة ـ بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء الساكنة ـ: للخيل والبغال والحمير بمنزلة الشَفَة للاِنسان.
3- اعْذِبُوا: أي أَعرضوا واتركوا.
4- الفَتّ: الدق والكَسر، وفَتّ في ساعده ـ من باب نصر ـ أي: أضعفه كأنه كسره.
5- مَعَاقِدُ العزيمة: مواضع انعقادها وهي القلوب، وقدح فيها: بمعنى خرقها كناية عن أوْهَنَها.
6- (يكسر عنه): يؤخّر عنه.
7- العَدْوـ بفتح فسكون ـ: الجَرْي.
8- الياسِرُون: اللاعِبون بالميْسِر، وهو القمار.
9- يتضاربون بالقِداح: أي يقامرون بالسهام على النصيب من الناقة.
10- الجَزُور ـ بفتح الجيم ـ: الناقة المجزورة، أي المنحورة.
11- فَلَجَ ـ من باب ضرب ونصر ـ: فاز وانتصر.
12- العِضاض ـ بكسر العين ـ: أصله عضّ الفرس، مجاز عن إهلاكها للمتحاربين.
13- فَزِع المسلمون: لجؤوا إلى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه.
14- الحَمْيُ ـ بفتح فسكون ـ: مصدر حَمِيَت النار: اشتدّ حرّها.
15- مُجْتَلَد ـ مصدر ميمي من الاجتلاد ـ أي: الاقتتال.
16- اسْتَحرّ: اشتدّ، والجِلاد: القتال.



الفهرسة