الخطبة ٢٣: وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ٢٣: وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة

 البحث  الرقم: 24  المشاهدات: 5338
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة

تهذيب الفقراء


أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً (1) في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالْفَالِجِ (2) اليَاسِرِ (3) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ بَهَا عَنْهُ المَغْرَمُ.
وَكَذْلِكَ الْمَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ. إِنَّ المَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأَقْوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتُ بَتَعْذِير (4)، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ (5) إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ.
نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الاَْنْبِيَاءِ. تأديب الاغنياء أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَال ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً (6) مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ (7)، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ الصدق
: حُسْنُ الذكر بالحق.">(8) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ.
ومنها: أَلاَ لاَيَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ (9) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ (10)، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ؛ وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ.

قال السيد الشريف: أقول: الغفيرة ها هنا الزيادة والكثرة من قولهم للجمع الكثير: الجم الغفير.
ويروي «عِفْوة من أهل أو مال» والعِفْوة: الخيار من الشيء يقال: أكلت عِفْوةَ الطعام أي خياره.
وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة؛ فإذا احتاج إلى نصرتهم، واضطر إلى مرافدتهم (11)، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الأيدي الكثيرة، وتناهض الأقدام الجمة.

الهوامش

1- غفيرة: زيادة وكثرة.
2- الفالج: الظافر، فَلَجَ يَفْلُجُ ـ كنصر ينصر ـ: ظفر وفاز، ومنه المثل: «من يأتِ الحكم وحده يَفْلُجُ».
3- الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر، وفي الكلام تقديم وتأخير، ونَسَقُهُ: كالياسر الفالج، كقوله تعالى: (وغرابيب سُود)، وحَسّنَهُ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما إنّما تأتي بعد الاخرى إذا صاحبتها.
4- التعذير ـ مصدر عذّرَ تَعْذيراً ـ: لم يثبُتْ له عُذْر.
5- يَكِلُه الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ: مثل وزن يزن.
6- حَيْطة ـ كبيعة ـ: رعاية وكلاءة.
7- الشَعَث ـ بالتحريك ـ: التفرق والانتشار.
8- لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق.
9- الخَصَاصة: الفقروالحاجة الشديدة، وهي مصدر خَصّ الرجل ـ من باب عَلِمَ ـ خَصَاصاً وخَصَاصة، وخصاصاء ـ بفتح الخاء في الجميع ـ إذا احتاج وافتقر، قال تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ)
10- أهلك المالَ: بِذَلَهُ.
11- المُرافَدَةُ: المُعاوَنَة



الفهرسة