الخطبة ١٨٣: في قدرة الله وفي فضل القرآن وفي الوصية بالتقوى
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ١٨٣: في قدرة الله وفي فضل القرآن وفي الوصية بالتقوى

 البحث  الرقم: 184  المشاهدات: 6793
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام في قدرة الله وفي فضل القرآن وفي الوصية بالتقوى

الله تعالى


الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ (1)، خَلَقَ الْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَلِيُبَصِّرُوهُم عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا (2) عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ (3) مِنْ تَصَرُّفِ (4) مَصَاحِّهَا (5) وَأَسْقَامِهَا، وَحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ، وَكَرَامَةٍ وَهَوَانٍ. أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ (6) إِلَى خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً، وَلِكُلِّ قَدْرٍ أجَلاً، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً.

فضل القرآن


منها: فَالْقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ. حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثاقَهُمْ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ (7)، أَتَمَّ نُورَهُ، وَأكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ.
فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوْ تَدْعُوإِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَىْءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَولٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ، قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ.

الوصية بالتقوى


وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ، وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ (8)، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ، قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ (مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ، ظِلُّهَا عَرْشُهُ، وَنُورُهَا بَهْجَتَهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ.
فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وَسَابِقُوا الْآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ (9)، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ ربّ
ارجعونيِ لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركت.">(10) مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ بَنُوسَبِيلٍ، عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَراِكُمْ، وَقَد أُوذِنْتُمْ مِنهَا بِالْإِرْتِحَالِ، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا.
أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ، وَقَرِينَ شَيْطَانٍ! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً (11) إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضَاً لِغَضَبِهِ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ! أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ (12)، الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتَيرُ (13)، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ، وَنَشِبَتِ الجَوَامِعُ (14) حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ.
فَاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ، فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا (15)، أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ، وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسَكُمْ، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ، اسْتَنْصَرَكُمْ ﴿وَلَهُ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحُكِيمُ﴾، وَاسْتَقْرَضَكُمْ ﴿وَلَهُ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ ﴿يَبْلُوَكُمْ (16) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ، رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وَأَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ، وَأَكرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ الحسيس
: الصوت الخفي.">(17) نَار أَبَداً، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً (18): ﴿ذلِكَ فُضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!

الهوامش

1- المَنْصبَة ـ كمصطبة ـ: التعب.
2- هجَم عليه ـ كنصر ـ: دخل غفلة.
3- المُعتبَرُ ـ مصدر ميمي ـ: الاعتبار والاتعاظ.
4- التصرف ـ هنا ـ: التبدّل.
5- المصاحّ ـ جمع مَصِحّة بكسر الصاد وفتحها ـ: بمعنى الصحة والعافية.
6- استَحْمَد: أي طلب من خلقه أن يحمدوه.
7- ارتهن عليهم انفسهم: حبس نفوسهم وجعلها رهناً علي الوفاء بميثاقهم.
8- يقال: «فلان بعين فلان»، إذا كان بحيث لا يخفى عليه منه شيء.
9- يَرْهَقُهُم بالأجل: أي يَغْشاهم بالمنية.
10- يريد بالرجعة هنا: ما يسأله الإنسان المذنب من العودة إلى الدنيا ليعمل صالحاً كما قال الله: ربّ ارجعونيِ لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركت.
11- مالك: هوالموكّل بالجحيم.
12- اليَفَن ـ بالتحريك ـ: الشيخ المسنّ.
13- لَهَزَهُ: أي خالطة. والقَتير: الشيب.
14- نَشِبَتْ ـ كفرحت ـ: عَلِقَت. والجوامع ـ جمع جامعة ـ: الغلّ، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
15- غَلِقَ الرهنُ ـ كفرح ـ: استحقّه صاحب الحق، وذلك إذا لم يكن فكاكه في الوقت المشروط.
16- يَبْلوكم: يختبركم.
17- 17 الحسيس: الصوت الخفي.
18- لَغِب ـ كسمع ومنع وكرم ـ لَغَباً ولُغُوباً: أُعيي أشدّ الإعياء. والنَصَب: التعب أيضاً.



الفهرسة