الخطبة ١٥٧: يحثّ الناس على التقوى
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ١٥٧: يحثّ الناس على التقوى

 البحث  الرقم: 158  المشاهدات: 5482
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام يحثّ الناس على التقوى
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَعَظَمَتِهِ. عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ، لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، وَلاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ.
آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ، مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ مهلك
، والمتأخر لا حق له في مثل أثره.">(1)، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ (2). فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ (3) تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ (4) بِشَوْلِهِ (5)، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّىءَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ.
اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلاَ يُحْرِزُ (6) مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ.
أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ (7) الْخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصُوَى.
عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ (8) لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ.
قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ (9)، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بَالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ! وَمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ (10) وَحِسَابُهُ!
عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ.
عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ.
اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً (11) مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُورِتَاجٍ (12)، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ.
يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ، وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَحِقاً بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِىءٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ القبر
.">(13)، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ، فَيَالَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ، وَمُفْرَدِ غُرْبَةٍ!
وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ كانت إلاّ صيحةً واحدةً">(14) قَدْ أَتَتْكُمْ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ، وَبَرَزْتُمْ لَفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ (15) عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ، وَصَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بَالْغِيَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.

الهوامش

1- تتشابه أمور الدهر: أي مصائبه، كأنّ كلاً منها يطلب النزول قبل الآخر، فالسابق منها مهلك، والمتأخر لا حق له في مثل أثره.
2- الأعلام هي الرايات: كنّى بهم عن الجيوش. وتظاهر: تعاونها.
3- الساعة: القيامة. وحَدْوُها: سَوْقها وحثّها لأهل الدنيا على المسير للوصول إليها.
4- زاجر الإبل: سائقها.
5- الشَوْل ـ بالفتح ـ: جمع شائلة، وهي من الإبل ما مضى عليها من حملها أووضعها سبعة أشهر.
6- لا يُحْرِزُ: لا يحفظ.
7- الحُمَة ـ بضم ففتح ـ: في الأصل إبرة الزّنبور والعقرب ونحوها تلسع بها، والمراد هنا سطوة الخطايا على النفس.
8- أيام الفناء: يريد أيام الدنيا.
9- المراد «بالظّعن» المأمور به ها هنا السير إلى السعادة بالأعمال الصالحة، وهذا ما حثنا الله عليه.
10- تَبَعَتُهُ: ما يتعلق به من حق الغير فيه.
11- الرّصَد: الرّقيب. ويريد به هنا رقيب الذمة وواعظ السر.
12- الرّتاج ـ ككتاب ـ: الباب العظيم إذا كان مُحْكَم الغَلْق.
13- «منزل وحدته»: هو القبر.
14- المراد «بالصيحة» هنا الصيحة الثانية، بقوله تعالى: إن كانت إلاّ صيحةً واحدةً
15- زاحت: بعدت وانكشفت.



الفهرسة