علي والناكثين (الأسباب والنتائج)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » علي والناكثين (الأسباب والنتائج)

 البحث  الرقم: 2565  التاريخ: 2 ربيع الآخر 1430 هـ  المشاهدات: 7131
لمّا قُتل عثمان بن عفّان وآل الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وبايعه الناس، نهض طلحة والزبير ونكثا بيعتَه وتوجَّهَا إلى عائشة، لِمَا سمعوا أنّها لمّا أتاها خبر قتل عثمان وخلافة علي (عليه السلام) قالت: لأطالبنّ بدمه، فقيل لها: بالأمس كنتِ تقولين: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً ـ تشبيهاً بيهودي أعرج كان يسمّى نعثلاً ـ، واليوم تقولين هذا؟!، قالت: لِمَ يقتلوه إذْ قلتُ، وتركوه حتى تاب وعاد كالسبيكة من الفضة وقتلوه؟.
وخرج طلحة والزبير من المدينة على خفية، ووصلا إلى مكّة، وأخرجا عائشة إلى البصرة، فقال بعض الشعراء في ذلك ـ ولله درّه ـ:
جاءت مع الأشقَين في هودج * تـزجي إلى البصرة أجنادها
كـأنّها فـي فـعلها هُـرّة * تـريد أنْ تـأكل أولادهـا
وكانت عائشة عند خروجها قد التمستْ مِن أُمّ سَلَمَة الخروج فأبتْ، وسألتْ حفصة فأجابتْ، ثمّ خرجت عائشة في أوّل نفر راكبة الجمل العسكر، وفي الخبر أنّه كان شيطان، وسارت حتى انتهتْ الحَوْءَب وهو ماء، فصاحت كلابها فقالت عائشة: أيّ ماء هذا؟.
فقيل الحَوْءَب، فقالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوءب، وفي رواية فصاحت: ردّوني ردّوني، فساروا بها حتى وصلوا البصرة.
وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من المدينة طالباً لهم، فلمّا قرب من البصرة كتب إلى طلحة والزبير:
بسم الله الرحمان الرحيم، أمّا بعد، فقد علمتم إنّي لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أُبايعهم حتّى اكرهوني، وأنتما ممّن أراد بيعتي وبايعتما، ولم تبايعا لسلطان غالب ولا لغرض حاضر، فإنْ كنتما طائعين فتوبا إلى الله تعالى عمّا أنتما عليه، وإنْ كنتما مكرَهين فقد جعلتُما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية، وأنت يا زبير فارس قريش، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين، ودَفْعَكُمَا هذا الأمر قبل أنْ تدخُلا فيه، كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقرارِكُما به، وأمّا قولكما إنّي قتلتُ عثمان بن عفّان، فبيني وبينكما مَن تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرئ بقتل ما احتمل، وهؤلاء بنو عثمان ـ إنْ قتل مظلوماً كما تقولان ـ أولياؤه، وأنتما رجلان من المهاجرين وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي، وأخرجتما أُمّكما مِن بيتها التي أمرها الله تعالى أنْ تَقَرّ فيه، والله حَسْبكما والسلام.
وكتب (عليه السلام) إلى هائشة:
أَمّا بعد، فإنّك خرجتِ من بيتك عاصيةً لله ولرسوله، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس، فخبّريني ما للنساء وَقَوْد العساكر، وزعمتِ أنّك طالبة لدم عثمان، وعثمان رجل من بني أميّة وأنت امرأة من بني تَيْم بن مرّة، ولعمري إنّ الذي عرضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً مِن قَتَلَةِ عثمان، وما غضبت حتى أغضبتي وما هجت حتى هيجتي، فاتّقِ الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك وأَسْبِلي عليكِ سترك والسلام.
فجاء الجواب إليه: يا بن أبي طالب، جل الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك أبداً فاقض ما أنت قاضٍ والسلام.
ثمّ تقارب الجمعان ورأى عليٌّ تصميم عزمهم على قتاله فجمع أصحابه وخطبهم خطبة بليغة قال فيها:
الحمد لله على بلائه... ثمّ قال:
واعلموا أيّها الناس إنّي قد تأنّيتُ هؤلاء القوم وناشدتُهم كي ما يرجعوا ويرتدعوا فلم يفعلوا ولم يستجيبوا، وقد بعثوا إليّ أنْ أَبْرِزُ إلى الطِعَان وقد كنتُ ما أُهدّد بالحرب وما أدّعى إليها، وقد أنصف القارَةَ مَن راماها، فأنا أبو الحسن الذي فللتُ حدَّهم وفرّقتُ جماعتهم، بذلك القلب ألقى عدوّي وأنا على بيّنة مِن ربّي لِمَا وعدني من النصر والضَفَر، وإنّي لَعَلَى غير شبهة من أمري، أَلاَ وإنّ الموت لا يفوته مقيم ولا يعجزه هارب، ومَن لم يُقتل يَمتْ، وإنّ أفضل الموت القَتْل، والذي نفس عليّ بيده لأَلْف ضربة بالسيف أهون عَلَيَّ من موتة على الفراش.
ثمّ رفع يده إلى السماء وقال:
اللّهمّ إنّ طلحة بن عبد الله أعطاني يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي!، اللّهمّ فعاجلْه ولا تُمهلْه، وإنّ الزبير بن العوّام قطع قرابتي ونكث بيعتي وعهدي، وظاهر عدوي ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم، اللّهمّ فأكفنيه كيف شئتَ وأنَى شئتْ.
أقول:
وفي كتاب ـ مروج الذهب ـ للمسعودي بإسناده عن المنذر بن الجارود، قال: لمّا قدم علي (عليه السلام) البصرة، دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية، فخرجتُ أَنظرُ إليه فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض، متقلّد سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة، مدجّجين في الحديد والسلاح، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهؤلاء الأنصار وغيرهم، ثمّ تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: هذا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.
ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرسٍ كُمَيْتٍ معتمٌّ بعمامة صفراء، مِن تحتها قلنسوة بيضاء، متقلّدٌ سيفاً، متنكّب قوساً، وعليه قِباء أبيض معقول في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: أبو قتادة بن ربعي.
ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سَدَلَها بين يديه ومِن خلفه، شديد الأدمة، عليه سكينة ووقار، رافع صوته بقراءة القرآن، متقلّد سيفاً، متنكّب قوساً، معه راية بيضاء في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان، حوله مشيخة وكهول وشباب، كأن قد أُوقفوا للحساب، أثر السجود قد أثّر في جِباههم، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: عمّار بن ياسر في عدّة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.
ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء، متنكّب قوساً، متقلّد سيفاً، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف من الناس، الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض، ومعه راية صفراء، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان.
ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشهب ما رأينا أحسن منه، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سَدَلَهَا بين يديه بلواء، فقلتُ: مَن هذا؟.
قيل: هو عبد الله بن العبّاس في عدّة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثمّ تلا موكب آخر في عدّة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيه فارس أشبه الناس بالأوّل، فقلتُ: مَن هذا؟.
فقيل: هو معبد بن العبّاس.
ثمّ تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأوَّلَين، قلتُ: مَن هذا؟.
قيل: القثم بن العبّاس أو سعيد بن العاص.
ثمّ أقبلتْ المواكب والرايات يقدِم بعضُها بعضاً، واشتبكت الرماح.
ثمّ ورد موكب فيه خَلْق من الناس وعليهم السلاح والحديد مختلفوا الرايات، في أوّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنّما كسر وجبر، قال المسعودي: قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، وأصحابه كأنّ على رؤوسهم الطَير، عن ميسرته شاب حسن الوجه وعن ميمنته شاب أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمامه شاب بيده راية عظيمة، قال جامع الكتاب: وفي بعض نسخ الرواية: وعلى كلّ قباء أخضر وعمامة مزركشة بالإبريز، مجرِّدين سيوفهم، شاكين أسلحتهم، فقلتُ: مَن هؤلاء؟.
قيل: هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) عن يمينه وشماله، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية العظمى، وهذا الذي خلْفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)، وهؤلاء وُلْد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فساروا حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية، قال جامع الكتاب: قال بعض الروات: وكانت عائشة في جُملة مَن حضر من أهل البصرة، فقالتْ: أيّها الناس، انظروا إلى عليّ بن أبي طالب، كأنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه، والله كنّا نعرفه بالشجاعة حتى عرفناه بالسلطان.
قال المسعودي:
فصلّى عليٌّ (عليه السلام) أربع ركعات وعفّر خَدّيه على التراب وقد خالط ذلك دموعه، ثمّ رفع يديه يدعو ويقول في دعائه: اللّهمّ ربّ السماوات وما أظلّتْ، وربّ الأرضيين وما أقلّت، وربّ العرش العظيم، هذه البصرة أسألك مِن خيرها وأعوذ بك مِن شرّها، اللّهمّ أَنْزِلْنَا فيها منزل خير وأنت خير المنزِلين، اللّهمّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبَغَوا عَلَيّ ونَكَثُوا بيعتي، اللّهمّ احقن دماء المسلمين، ثمّ تقاربوا وتعبَّأوا لابسين سلاحهم ودروعهم، متأهِّبين للحرب، وكلّ ذلك وعلي (عليه السلام) بين الصفّين، عليه قميص ورداء وعمامة سوداء وهو راكب على بَغْلته.
فلمّا رأى أنّه لم يبقَ إلاّ مصافحة الصفاح والمطاعنة بالرماح، صاح (عليه السلام) بأعلى صوته: أين الزبير بن العوّام، فَلْيخرج إليّ؟ .
فقال الناس: يا أمير المؤمنين أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر وهو مدجّج بالحديد!؟.
فقال (عليه السلام): ليس عَلَيّ منه بأس.
ثمّ نادى ثانية، فخرج إليه ودنى منه فقال (عليه السلام): يا أبا عبد الله!، ما حملك على ما صنعت؟ .
فقال: الطلب بدم عثمان!.
فقال (عليه السلام): عثمان أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أنْ تقيد مِن نفسك، ولكن أُنشِدك بالله الذي لا إله إلاّ هو الذي أنزل القرآن على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله)، أَمَا تذكر يوم قال لك رسول الله (صلى الله عليه وآله): أتحبّ عليّاً؟، فقلتَ: وما يمنعني مِن حبّي له وهو ابن خالي، فقال لك: أَمّا أنت فتخرج عليه يوماً وأنت عليه ظالِم.
فقال الزبير: اللّهم بلى فقد كان ذلك!.
فقال (عليه السلام): فأنشدك الله الذي أنزل القرآن على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله)، أَمَا تذكر يوماً جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذ بيدك فاستقبلتُه أنا فسلّمتُ عليه فضحك في وجهي وضحكتُ أنا إليه، فقلتَ أنت: لا يدع ابنُ أبي طالب زهوَه أبداً، فقال لك النبي (صلى الله عليه وآله): مهلاً يا زبير فليس به زَهْو، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له.
فقال الزبير: اللّهمّ بلى، ولكن نسيتُ!، فلأنْ ذكّرتني ذلك فلأصرفنّ عنك، ولو ذكرتَ ذلك لَمَا خرجتُ عليك.
ثمّ رجع إلى عائشة، فقالتْ: ما ورائك يا أبا عبد الله.
فقال الزبير: والله إنّي ما وقفتُ موقفاً في شِرك ولا إسلام إلاّ وَلِي فيه بصيرة، وأنا اليوم على شَكٍّ من أمري، وما أكاد أنْ أُبصِر موضع قدمي ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم فَلَقِيَهُ عبد الله ابنُه، فقال: جبناً جبناً!.
فقال: يا بني، قد علم الناس إنّي لستُ بجبان، ولكن ذكّرني علي (عليه السلام)، شيئاً سمعتُه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحلفتُ أنْ لا أُقاتله.
فقال: دونك غلامك فلان، اعتقْه كفّارة ليمينك!.
فقال: لا قاتلتُه أبداً، فخرج ونزل على قوم من بني تميم، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي فقتله حين نام في ضيافته، فنفذت فيه دعوة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وروي أنّ عائشة قالتْ له: لا والله، بل خفتَ سيوف ابن أبي طالب، أَمَا إنّها طِوال حِداد سواعد أمجاد، فَلَئِنْ خِفْتها فلقد خافها الرجال قبلك!، فرجع إلى القتال، فقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): إنّه رجع!، فقال (عليه السلام): دعوه، فإنّ الشيخ محمول عليه.
ثمّ قال (عليه السلام): أيّها الناس، غضّوا أبصاركم وعضّوا على نواجذكم، وأَكْثِروا مِن ذِكْر ربّكم، وإيّاكم وكثرة الكلام فإنّه فشل، فنظرتْ إليه عائشة وهو بين الصفّين، فقالتْ: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله يوم بدر، أَمَا والله ما يُنْتَظَرُ بك إلى زوال الشمس.
فقال (عليه السلام): يا عائشة عمّا قليل لتصبحنّ من النادمين، فجَدّ الناس في القتال فنهاهم أميرُ المؤمنين (عليه السلام) وقال: اللّهمّ إنّي أعذرت وأنذرت فكن لي عليهم من الشاهدين، ثمّ أخذ المصحف وطلب مَن يقرأ عليهم: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...)، فقال مسلم المجاشعي: ها أنا ذا، فخوّفه (عليه السلام) بقطع يمينه وشماله، فقال: لا عليك يا أمير المؤمنين فهذا قليل في ذات الله، فأخذه ودعاهم إلى الله فقُطعتْ يمينه! فأخذه بيده اليسرى فقُطعتْ! فأخذه بأسنانه فقتلوه! فقالتْ أُمّه ترثيه:
يـا ربِّ إنّ مسلماً أتاهم * بِمُحكمِ التنزيلِ إذْ دَعَاهُم
يتلُوكتابَ اللهِ لا يَخْشَاهُم * فـزملوه زمـلت لحاهم
قال المسعودي في كتابه ـ مروج الذهب ـ بإسناده:
وأمر على أنْ يصافوهم ولا يبدوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخٍ له مقتول، وجاء قومٌ من الميسرة برجل قد رُمي بسهم فقُتل، فقال علي: اللّهم اشهد واعذر، ثمّ قام عمّار بن ياسر بين الصفّين فقال: أيّها الناس ما أنصفتُم نبيّكم حتى كففتُم عتقاء تلك الخدور، وأبرزتُم عقيلته للسيوف، وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود، قد غشى على ذلك بالدروع! فدنا عمّار من موضعها فقال: إلى ماذا تدعين؟.
قالتْ: إلى الطلب بدم عثمان!.
فقال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق.
قال: وتواتر عليه الرمي واتّصل فحرّك فرسه وزال عن موضعه، فقال ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين وليس لك عند القوم إلاّ الحرب، فقام علي (عليه السلام) فقال: أيّها الناس، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، ولا تهتكوا سِتراً، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أَمَة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله.
وفي ـ المناقب ـ بعد قتل مسلم المجاشعي أنذرهم (عليه السلام) فلم يقبلوا! فقال (عليه السلام): الآن طاب الضراب، وقال لمحمد بن الحنفية والراية في يده: يا بُنَي، تزول الجبالُ ولا تَزُلْ، عَضّ ناجذك، أَعِر اللهَ جُمْجُمَتَك، تِدْ في الأرض قدمَيْكَ، ارمِ ببصرك أقصى القوم، وغُضّ بصرك، واعلم أنّ النصر مِن الله، ثمّ صبر سويعة فصاح الناس مِن كل جانب مِن وقْع النِبَال! فقال (عليه السلام): تقدّم يا بُني، فتقدّم وطعن طعناً منكراً، فأنشد أمير المؤمنين عليه السلام يقول لمحمّد:
إِطعَن بِها طَعنَ أَبيكَ تُحمَدِ * لا خَيرَ في حَربٍ إِذا لَم تُوقَدِ
بِالمَشرَفِيِّ وَالقَنا المُسَدَّدِ.
ثمّ أمر الأشترَ أنْ يَحْمِل فَحَمَلَ، وقَتَلَ هاني بن وكيع صاحب ميمنة الجَمَل، ثمّ الْتَحَمَ القتال وجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يقرأ: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)، ثمّ حلف (عليه السلام) أنّه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم، واتّصل الحرب وكثر القتل والجرح، فخرج عبد الله اليثربي قائلاً:
يا ربِ إنّي طالبٌ أبا حسن * ذاك الذي يعرف قدماً بالفتن
فأتاه أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً:
إِن كُنتَ تَبغي أَن تَرى أَبا الحَسَن * فَاليَومُ تَلقاهُ مَليّاً فَاِعلَمَن
وشدّ عليه وضربه بالسيف فأسقط عاتقه ووقع قتيلاً فوقف (عليه السلام) عليه وقال: لقد رأيتُ أبا حسن فكيف وجدتَه، فخرج بنو ضبّة وجعلوا يقولون:
نحنُ بنو ضبّة أصحابُ الجمل * والموتُ أحلى عندنا مِن العَسَل
ردّوا عـلينا شـيخَنَا بمرتحل * إنّ عـليّاً بـعد مِن شرّ النذل
وقال بعضهم:
نحنُ بنو ضبّة أعداء علي! * ذاك الذي يُعرف فيهم بالوصي
وكان عمر بن اليثربي يقول:
إنْ تنكروني فأنا ابن اليثربي! * قاتل عليّاً يوم هذا الجملِ!
فبرز إليه عمّار قائلاً:
لا تبرح العرصة يا بن اليثربي * اثبت أُقاتلك على دين علي
فأراده عن فرسه وجرّ برجله إلى علي (عليه السلام) فقتله بيده، فخرج أخوه قائلاً:
أضربكم ولو أرى عليّاً * عممته أبيض مشرفيّا
وأسمراً عنطنطاً حظيّاً * أبكي عليه الولد والوليّا
فخرج إليه علي (عليه السلام) متنكّراً وهو يقول:
يا طالباً في حربه عليّا * بمنحه أبيض مشرفيّا
اثْـبِتْ ستلقاه بها مليّا * مـهذّباً سَـمَيْدَعاً كميّا
فضربه (عليه السلام) فرمى نصف فرسه، فناداه عبد الله بن خلف الخزاعي أتبارزني! فقال (عليه السلام): ما أكره ذلك، ويحك يا بن خلف ما راحتك في القتل وقد علمتَ مَن أنا، فقال: ذرني مِن بَذَخِكَ يا بن أبي طالب! ثمّ أنشد يقول:
إنْ تَدْنُ منّي يا علي فترى * فـإنّني دانٍ إلـيك شِـبْراً
بـصارمِ يَسقيك كأساً مُرّاً * فإنّ في صدري عليك وتراً
فبرز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول:
يا ذا الَّذي يَطلُبُ مِنّي الوِترا * إِنْ كُنتَ تَبغي أَن تَزورَ القَبرا
حَقّاً وَتُصلى بَعدَ ذاكَ الجَمرا * فَـاِدنُ تَـجِدني أَسَداً هِزَبرا
أطعمك اليوم زُعافا مُرّاً.
فضربه فطيّر جمجمته، فخرج مازن الظبّي قائلاً:
لا تطمعوا في جمعنا المكلّل * أموت دون الجمل المجلّل
فبرز إليه عبد الله بن نهشل قائلاً:
إنْ تنكروني فأنا ابن نهشل * فارس هيجاء وخطب فَيْصَل
فقتله.
وكان طلحة يحثّ الناس ويقول عبادَ الله، الصبر الصبر... في كلام له. فقال مروان بن الحكم: والله، لا أطلب ثأري بعثمان بعد اليوم فرمى طلحة بسهم فأصاب ركبته فوقع قتيلاً، فالتفتَ مروان إلى أبان بن عثمان وقال: لقد كفيتُك أحد قتل’ أبيك، وحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على بني ضبّة فما رأيتهم إلاّ كرماد اشتدتْ به الريح في يوم عاصف.
قال: فعند ذلك انصرف الزبير فتبعه عمرو بن جرموز فحزّ رأسه وهو نائم. وقيل: كان عمرو بن جرموز جالساً في حلقة قد اعتزلوا القتال فرأَوا الزبير مقبلاً، فسألوا عن شأنه، فقيل: قد اعتزل القتال، فقال عمرو بن جرموز: تعساً له من شيخ سوء، قد ألقى بين طائفتين مسلمتين واعتزلهم، والله لا فارقته حتى أقتله، ولمّا قتله أتى برأسه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): سمعتُ النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ الزبير وقاتله في النار، فغضب ابن جرموز وهو يقول:
أتـيتُ عليّاً برأس الزبير * أرجـو لـديه بـه الزلفة
فـبشر بـالنار إذ جـئته * فـبئس الـبشارة والتحفة
وسـيّان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة
وقيل: إنّ ابن جرموز قال لعلي (عليه السلام): النار جزاءنا إنْ نصرناكم وإنْ خذلناكم! وغضب وخرج وإنّه قتل نفسه، فكان أمره كما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام). وقيل لعائشة: قُتل طلحةُ والزبيرُ، وجعل يخرج واحداً بعد واحد ويأخذ زمام الجمل! حتى قتل ثمانية وتسعون رجلاً منهم، والقتل يؤجّج ناره والجمل يفني أنصاره.
قال: فخرج كعب بن سون الأزدي وهو يقول:
يـا معشرَ الناس عليكم أمّكم * فـإنّها صـلاتُكم وصَوْمُكم!
والحرمة العظمى التي تَعمّكم * فـاحضروها جِدّكم وحَزْمكم
لا يـغلبنّ سـم العدوّ سمكم * إنّ الـعدوَّ إنْ عـلاكم زَمَكم
وخـصّكم بـجوره وعَـمّكم * لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم
فشدّ عليه الأشتر فقتله، فخرج ابن حفير الأزدي يقول:
قد وقع الأمر بما لم يحذر * والنبل يأخذْنَ وراء العسكر
وأمنا في خدرها المشهر.
فبرز إليه الأشتر قائلاً:
إسمَع وَلاَ تَعجَل جَوابَ الأَشترِ * واقرَب تُلاَقِي كَأسَ مَوتٍ أَحمَرِ
يُنسِيكَ ذِكرَ الجَمَلِ المُشَهَّرِ.
فقتله، ثمّ قتل عمر الغنوي وعبد الله بن عتاب بن أسيد، ثمّ جالَ في الميدان جولاً وهو يقول: نحن بنو الموت به عدينا، فخرج إليه عبد الله بن الزبير فطعنه الأشتر وأرداه وجلس على صدره ليقتله فصاح عبد الله أقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي فقصدوا إليه من كل جانب فخلاّه وركب فرسه، فلمّا رأوه راكباً تفرّقوا عنه، فأخبرتْ عائشة بأنّ الأشتر بارَزَ عبد الله فصاحت واثكل أسماء، لولا الناس لقتله، فسبّ أصحاب الجمل بعضهم بعضاً فخرج عوف بن قطئ الظبّي وهو ينادي: ليس لعثمان ثأر إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولده! فأخذ خطام الجمل واستفتل حوله ثمّ جال وقال:
يـا أُمّ يـا أُمّ خلا منّي الوطن * لا ابتغي الغُسْل ولا أبغي الكفن
مَن هاهنا يَحشر عوف بن قطن * إنْ فـاتنا الـيوم علي فالغبن!
أو فـاتنا الـيوم حسين وحسن * إذن أَمُـتْ بطول هَمّ وحَزَن!
ثمّ تقدّم يضرب بسيفه فبدره أمير المؤمنين (عليه السلام) وقَدّه نِصْفَين.
وقيل: قتله محمد بن الحنفية، وشدّ رجل من الأزد على محمد بن الحنفية وهو يقول: يا معشر الأزد كرّوا! فَضَرَبَه محمّد فقطع يَدَه، فقال: يا معشرَ الأزد فُرّوا، فخرج الأسود بن البختري السلمي يقول:
ارحم إلهي الكل من سليم * وانظر إليهم نظرةَ الرحيمِ
فقتله عمرو بن الحمق رحمه الله، فخرج جابر الأزدي يقول:
يا ليتَ أهلي من عمار حاضري * من سادة الأزد وكانوا ناصري
فقتله محمد بن أبي بكر، فخرج بشر الظبي قائلاً:
ضبّة أبدى للعراق عمعمة * واضرمي الحرب العوان المضرمه
فقتله عمّار بن ياسر، وأخذتْ عائشة كفّاً من الحصا فحصبت به أصحاب علي (عليه السلام) وصاحت بأعلى صوتها: شاهت الوجوه!! كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم حنين، فقال لها قائل: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، ونادت عائشة: أيّها الناس عليكم بالصبر فإنّما يصبر الأحرار، فأجابها رجل كوفي:
يـا أُمّ يا أُمّ عققت فأعلموا * والأم تـغذو ولدها وترحم
أما تَرَي كَمْ مِن شجاع يكلم * ونـجتلي هامته والمعصم
وقال آخر:
قلتُ لها وهي على صهوات * إنّ لنا سواك أُمّهات
في مسجد النبي ثاويات.
وقال الحجّاج بن عمر الأنصاري:
يا معشر الأنصار قد جاء الأجل * إنّـي أرى الموتَ عِياناً قد نزل
فـبادروه نحو أصحاب الجمل * ما كان في الأنصار جبن وفشل
فكل شيء ما خلا الله جَلَل.
وقال خزيمة بن ثابت:
لم يغضبوا لله لكن للجمل! * والموت خير من مقام في خمل
والموت أحرى من فرار وفشل.
وقال شريح بن هاني:
لا عيش إلاّ ضرب أصحاب الجمل * والقول لا ينفع إلاّ بالعمل
وما لنا بعد عليٍّ مِن بَدَل.
وقال هاني بن عروة المذحجي:
يا لك حرب حثّها جمالها * قائده بنقصها ظلالها
هذا علي حوله أقيالها.
وقال قيس بن سعد:
قل للوصي اجتمعتْ قحطانها * إنْ يك حرب أُضرمتْ نيرانها
وقال عمّار بن ياسر:
إنّـي لعمّار وشيخي ياسر * صـاح كلانا مؤمن مهاجر
طـلحة فيها والزبير غادر * والحق في كفّ علي ظاهر
وقال مالك الأشتر:
هذا علي في الدجى مصباح * لمَن بدى في فضله مفتاح
وقال عدي بن حاتم الطائي:
أنا عدي ويماني حاتم * هذا علي وبالكتاب عالم
لم يعصه في الناس إلاّ ظالم.
وقال عمرو بن الحمق:
هذا علي قائد يرضى به * أخو رسول الله في أصحابه
من عودة الناس ومن نصابه.
وقال رفاعة:
إنّ الذين قطعوا الوسيلة * ونازعوا الطهر على الفضيلة
في حربه كالنعجة الأكيلة.
قال: وشكّتْ السهامُ الهودج حتى صار كأنّه جناح نسر أو شوك قنفذ، وزحف علي (عليه السلام) نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار وحوله بنوه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، فصاح بولده محمد ـ وكانت الراية بيده ـ: أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل ولا تقفنّ دونه، فتقدّم محمد فرشقتْه السهام! فقال محمد لأصحابه: رويداً حتى تنفذ سهامهم، فلم تبق إلاّ رشقة أو رشقات، فأنفذ علي (عليه السلام) إليه يستحثّه ويأمره بالمناجزة، فلمّا أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن وقال له: أقدم لا أُمّ لك.
فكان محمد بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ذكر ذلك يبكي ويقول: كأنّي أجد ريح نفسه في قفاي، والله لا أنسى ذلك أبداً، ثمّ أدركتْ عليّاً رقّة الوالد على ولده فتناول منه الراية بيده اليسرى وذو الفقار مشهور في يمناه، ثمّ حمل فغاص في عسكر الجمل، ثمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته.
فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، فلم يجب أحداً منهم ولا ردّ إليهم بصره، وظل يتحفظ ويَزْئِر زئير الأسد حتى فرّق مَن حوله وإنّه لطامح ببصره نحو عسكر الجمل لا يُبْصِر مَن حوله، ثمّ دفع الراية إلى محمد ثمّ حمل حملة ثانية وكبّر تكبيرات فدخل وسطهم وضربهم بالسيف قُدماً قُدماً، والرجال تفرّ مِن بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتى خضّب الأرض بدماء القتلى، ثمّ رجع وقد انحنى سيفه فاعصوصب به أصحابه وناشدوه الله في نفسه والإسلام وقالوا إنّك إنْ عَضَبْتَ يذهب الدين فأمْسِكْ ونحن نكفيك، فقال: والله ما أريد بما ترون إلاّ وجه الله والدار الآخرة.
ثمّ قال لمحمد: هكذا تصنع يا بن الحنفيّة، فقال الناس: مَن ذا الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين.
قال: فاستدار الجمل كما تدور الرحى، وتكاثف الرجال إلى حوله، واشتدّ رغائه وزحام الناس عليه، فنادى الحتات المجاشعي: أيّها الناس أُمّكم أُمّكم.
واختلط الناس فضرب بعضهم بعضاً، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل، وكان دونه ناس كالجبال، كلّما حَفّ قوم جاء أضعافهم فنادى علي (عليه السلام)، فرشقوا الجمل بالنبل، وأخذت النبال تترامى عليه فلم يبق منه موضع إلاّ أصيب بالنبل، ونادت الأزد وضبة: يا لثارات عثمان! ونادى أصحاب علي (عليه السلام): يا محمد فاتخذوها شعاراً، واختلط الفريقان فصاح علي (عليه السلام): ما أرى أحداً يقاتلكم غير هذا الجمل وهذا الهودج عرقبوا الجمل لعنه الله فإنّه شيطان.
وقال لمحمد بن أبي بكر: انظر متى عُرْقِبَ الجمل فأَدْرِك أختك فوارها، فوضع أمير المؤمنين (عليه السلام) سيفه في عاتقه وعطف نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك ومشى نحوه والخطام مع بني ضبّة، فاقتتلوا قتالاً شديدا، واستمر القتل في بني ضبّة فقُتل منهم مقتلة عظيمة هجم علي (عليه السلام) وأصحابه نحو الجمل فعرقب رِجلاً رِجلاً من الجمل، فدخل تحته رجل ضبّي وعرقب منه رِجلاً أخرى، فدخل تحته رجل آخر فضربه بجير النخعي على عجزه وعبد الرحمان على جنبيه وعمّار على طرفه، فحمله بنو ضبّة، فرشقوه بالسهام فوقع الجمل بجنبه وضرب بجرانه الأرض وعجّ عجيجاً لم يُسمع بأشدّ منه، فما هو إلاّ أنْ صرع الجمل حتى فرّت الرجال! كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب! فضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) على الهودج فقال: يا عائشة أهكذا أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ تفعلي؟ ، فقالتْ: يا أبا الحسن ظفرت فأحسِن، وملكتَ فاسجِح!.
فقال (عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر: شأنك بأختك فلا يدنو أحداً منها سواك، فدنى منها محمد ولطمها في وجهها، وقال لها: ما فعلتِ بنفسك، عصيتِ ربّك وهتكتِ ستركِ، ثمّ أبحتِ حرمتك وتعرّضتِ للقتل، فقالتْ له: ثكلتك أمّك! ليتها استبرئت حيضتها بخرقة ولم تلدك كان لك أنْ تستخلف مكان أبيك! لازمتَ علي بن أبي طالب وصِرْتَ مِن بعض رجاله! فقال لها: علي مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وإنّ أباك غصب حقّه وأغضب الله ورسوله بفعله، فسكتتْ عائشة.
قال: فأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنْ تُحمل عائشة بهودجها إلى دار عبد الله بن خلف وأمر بالجمل أنْ يُحرق ثمّ يُذرى في الريح، وقال (عليه السلام): لعنه الله مِن دابّة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثمّ قرأ: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) .
قال: فقالت عائشة لأخيها محمد: أقسمتُ عليك أنْ تطلب عبد الله بن الزبير جريحاً كان أو قتيلاً، فقال: إنّه كان هدفاً للأشتر، فانصرف محمد إلى العسكر فقال: اجلس يا ميشوم أهل بيته، فأتاها به فصاحت وبكت، ثمّ قالتْ: يا أخي استأمن له مِن علي (عليه السلام)، فأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستأمن له منه، فقال (عليه السلام): آمنته وآمنت جميع الناس.
وكان مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في وقعة الجمل: عشرون ألفا، منهم: البدريون ثمانون رجلاً، وممّن بايع تحت الشجرة مئتا وخمسون، ومن الصحابة خمسمئة رجل.
وكان مع عائشة: ثلاثون ألفاً أو يزيدون، منهم المكّيّون ستمئة رجل، وقتل منهم يوم الجمل عشرون ألفاً، ومن أصحاب علي (عليه السلام) ألف وسبعون رَجُلاً، ولله درّ الأزري حيث يقول:
يوم جاءتْ تقود بالجمل العس * كـر لا تتّقي ركوب خطاها
فـألحت كلاب حَوْءَب نَبْحَاً * فـاستقلّتْ بـه على حوباها
يـا تُـرى أيّ أُمّـة لـنبيّ * جـاز في شرعها قِتال نِسَاها
أيّ أُمّ لـلـمؤمنين أسـاءتْ * بـبـنيها وفـرّقتْهم سِـواها
شـتّتهم فـي كلّ شِعب ووادٍ * بـئس أُمّ عَـتَتْ على أبناها
نَـسِيَتْ آيـة الـتبرّج أَمْ لَمْ * تَـدْرِ أنَ الرحمان عنه نَهَاها
حـفظتْ أربعين ألفَ حديثاً * ومِـن الـذكر آيـة تَنْسَاها
ذَكّـرَتْنَا بـفعلها زوجَ موسى * إذْ سَـعَتْ بـعد فَقْدِه مَسْعاها
قـاتلتْ يـوشعاً كـما قاتلتْه * لم تُخالِف حمراؤها صفراها
واسـتمرّتْ تجرّ أرديةَ اللهوِ * الـذي عـن إلـهها أَلْـهَاهَا
[اقتباس شبكة الإمامين الحسنين (عليه السلام) من كتاب: الأنوار العلوية والأسرار المرتضوية في أحوال أمير المؤمنين وفضائله ومناقبه وغزواته (عليه السلام) تأليف: الشيخ جعفر النقدي، ص208 ـ ص221].

الروابط
مواقع الإنترنيت: مركز آل البيت العالمي للمعلومات
مفاتيح البحث: عبد الله بن الزبير،
محمد بن الحنفية،
طلحة،
محمد بن أبي بكر،
عائشة،
مرو،
...
المواضيع: تاريخ أهل البيت
أقسام الموقع: التاريخ

الفهرسة