البحث الرقم: 682 التاريخ: 7 محرّم الحرام 1430 هـ المشاهدات: 5416
لم يشاهد الناس في جميع مراحل التاريخ أشجع، ولا أربَطُ جأشاً، ولا أقوى جناناً من الإمام الحسين (عليه السلام). فقد وقف (عليه السلام) يوم الطف موقفاً حيَّر فيه الألباب، وأذهل فيه العقول، وأخذت الأجيال تتحدثُ بإعجاب وإكبارٍ عَن بَسَالَتِه، وصَلابة عَزمه (عليه السلام)، وقد بُهِر أعداؤه الجبناء بِقوَّة بَأسه. فإنَّه (عليه السلام) لم يضعف أمام تلك النكبات المذهلة التي أخذت تتواكب عليه، وكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلما ازاداد الموقف بلاءً ومحنة. فإنَّه (عليه السلام) بعد ما فقد أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) زحف عليه الجيش بأسره، وكان عدده ـ فيما يقول الرواة ـ ثلاثين ألفاً. فحمل عليهم وَحدهُ وقد مَلَك الخَوفُ والرُعب قلوبهم، فكانوا ينهزمون أمامَه كالمعزى إذا شَدَّ عليها الذئب ـ على حَدِّ تعبير الرواة ـ. وبقي (عليه السلام) صامداً كالجبل، يتلقى الطعنَات من كل جانب، ولم يُوهَ له ركن، وإنما مضى في أمره استِبْسَالاً واستخفافاً بالمنية. وقال أحد شعراء أهل البيت (عليهم السلام): فَتلقَّى الجُموعَ فرداً وَلكنْ * كُل عُضوٌ في الرَّوعِ منه جُموعُ رُمحُه مِن بنَانِه، وَكأنَّ من * عَزمِهِ حَدُّ سَيفِه مَطبوعُ زَوَّجَ السَّيفَ بالنفوسِ وَلكنْ * مَهرُها المَوتُ وَالخِضَابُ النَّجِيعُ ولما سقط (عليه السلام) على الأرض جريحاً وقد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش بأسره من الإجهاز عليه رعباً وخوفاً منه (عليه السلام). وقد صوَّر الشاعر ذلك المشهد بقوله: عَفيراً مَتى عَايَنَتْهُ الكُمَاة * يَختَطِفُ الرُّعبُ أَلوَانَها فَما أجلَت الحَربُ عَن مِثلِهِ * صَريعاً يُجَبِّنُ شُجعَانَها وتغذى أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) بهذه الروح العظيمة، فتسابقوا إلى الموت بشوقٍ وإخلاص، لم يختلجْ في قلوبِهم رُعب ولا خوف، وقد شَهدَ لهم عَدوُّهُم بالبَسَالة ورباطة الجأش. فقد قيل لرجل شَهدَ يوم الطفِّ مع عمر بن سعد: وَيحك، أقَتَلتُم ذُرِّيَّة رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله) ؟!!. فاندفع قائلاً: عَضَضْت بالجندل، إنك لو شهدتَ ما شهدنا لَفعلتَ ما فعلنا، ثارت علينا عِصابةٌ، أيديها في مَقابِض سيوفِها كالأُسُود الضارِية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسَها على الموت، لا تقبلُ الأمانَ، ولا تَرغبُ في المال، ولا يحولُ حائِلٌ بينها وبين الوُرودِ على حِياضِ المَنِيَّة، والاستيلاءِ على المُلك، فَلَو كَفَفْنَا عنها رُوَيداً لأتَتْ على نفوس العسكر بِحذافيرِه، فَما كُنَّا فاعِلين؟!!، لا أُمَّ لَك!!. ووصف أحد الشعراء هذه البسالة النادرة بقوله: فَلو وَقَفَتْ صُمُّ الجبال مَكانَهم * لَمادَتْ عَلى سَهلٍ وَدَكَّت على وَعرِ فَمِن قائمٍ يَستعرضُ النَّبلَ وجهُهُ * وَمِن مُقدِمٍ يَرمي الأَسِنَّة بِالصَّدرِ وما أروع قول السيد حيدر الحلي: دَكُّوا رُبَاها ثُم قالوا لَها * ـ وَقد جَثَوا ـ: نَحنُ مَكانَ الرُّبَا فقد تحدَّى أبو الأحرار (عليه السلام) ببسالته النادرة الطبيعةَ البشرية، فَسخَر من الموت، وهَزأ مِن الحياة. وقد قال (عليه السلام) لأصحابه حينما رأى سهام الأعداء تُمطِر عليهم: قُومُوا رَحِمَكُمُ اللهُ إلى المَوتِ الذي لا بُدَّ منه، فإنَّ هذه السِّهام رُسُل القَومِ إِليكُم. فنرى أنه (عليه السلام) قد دعا أصحابه إلى الموت كأنما هو يدعوهم إلى مأدبة لذيذة، وقد كانت لذيذة عنده حقاً، لأنه (عليه السلام) ينازل الباطل، ويرتسم له بُرهَان رَبِّه الذي هو مَبدؤهُ (عليه السلام).