الإمامة في القرآن
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » الإمامة في القرآن

 البحث  الرقم: 622  التاريخ: 17 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 18578
قائمة المحتويات

التمهید

{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3)، تشير القرائن الداخلية في الآية الكريمة مع الشواهد الخارجية التي تمثلت بما جاء بشأنها من أخبار من طرق الشيعة والسنة، للتدليل على اختصاصها بغدير خم.
ومادام بحثنا يدور حول الآيات القرآنية في هذا المجال، ويرتبط بما تستدل به الشيعة من آيات في الإمامة، فقد رأيت أن أشير لعدد آخر من الآيات مما يستدل به علماء الشيعة، لكي يتبين، على نحو صحيح، طبيعة نهجهم في الاستدلال.
من الآيات الأخرى التي لها علاقة بالموضوع، هي الآية من سورة المائدة التي جاءت بعد هذه بستين آية تقريبا، حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة/67).
قبل الدخول في البحث، من الضروري أن أبسط مقدمة تعين على توضيح الفكرة التي ذكرناها في بحث الآية السابقة.

الوضع الخاصّ للآيات التي ترتبط بأهل البيت

المسألة التي تبدو غامضة حقا هو أن الآيات القرآنية الواردة بشأن أهل بيت النبي - أو على الأقل تلك التي تختص من وجهة نظرنا نحن الشيعة بعليّ أمير المؤمنين - جاءت وهي تنطوي على وضع خاص، وهو أن هذه الآيات في الوقت الذي تنطوي فيه على دلائل وقرائن تؤكد الفكرة من الآية ذاتها، نجد وكأن هناك مسعىً، لكي تأتي هذه الفكرة [المحورية في الآية] من خلال أفكار أخرى، أو تأتي في سياق قضية أخرى، بحيث تتجاوز تلك الفكرة [المحورية والأساسية] ويطالها الإغفال.

والسؤال: ما هو السر؟؟

والسؤال: ما هو السر الذي يكمن وراء هذا المنحى؟
سيتبين في سياق الإجابة على هذا السؤال، الرد أيضا على أولئك الذين ما برحوا يتساءلون: إذا كان الله يريد أن ينص على الإمام علي (عليه السلام) كخليفةٍ للنبي (صلى الله عليه وآله) فلماذا لم يصرح باسمه مباشرة في القرآن؟؟

آية التطهير

كمثال للحالة، لدينا آية باسم آية التطهير، حيث يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الاحزاب33). فلو بقينا والآية، فسيكون المفاد واضحا جليا جدا، إذ تفيد أن الله أراد لكم أهل البيت الطهارة والتنزيه.
وقوله (يطهركم تطهيرا) دلالة على نوع خاص من التطهير. فالطهارة التي ذكرها الله لا تنصرف إلى التطهير العرفي أو الطبي بحيث يكون المراد تطهير أجسام أهل البيت من الأمراض والجراثيم.
لا أريد القول: إن هذه لا تدخل في مصداق التطهير، ولكن المراد جزما بالتطهير الذي توفرت الآية على ذكره، هو في الدرجة الأولى ما ذكره القرآن نفسه بعنوان كونه رجسا. فالرجس في القرآن يشمل كل ما نهى عنه القرآن، وجميع ما أحصاه من أشكال الذنوب، سواء الذنوب الاعتقادية أو الأخلاقية أو العملية، فهذه جميعها رجس وقذر.
وهذا هو المراد من قولهم إن مفاد الآية يدل على عصمة أهل البيت، أي تنزهّهم عن جميع أشكال الرجس والموبقات. إذا أراد أحدنا أن يصرف النظر عن كونه شيعيا أو سنيا، ويفترض نفسه مستشرقا مسيحيا جاء من لجّة العالم المسيحي، وهو يريد أن يعرف ما جاء به
كتاب المسلمين، عندما ينظر إلى هذه الآية (آية التطهير) في القرآن ثم ييمم وجهة صوب التاريخ والسنة وحديث المسلمين، يجد أن ليس تلك الفرقة التي يطلق عليها الشيعة وتعرف بخصوص الولاء لأهل البيت وحدهم ‎، بل تجتمع حتى كلمة تلك الفرق التي لا ترتبط بولاء خاص لأهل البيت، في أهم كتبها المعتبرة وما ذكرته بشأن نزول الآية، على أن الآية جاءت في وصف أهل بيت النبي، وأنها نزلت في سياق تلك الواقعة المعروفة التي اجتمع فيها رسول الله (صلى الله علية وآله) مع علي والزهراء والإمام الحسن والإمام الحسين (عليهم السلام).
ويروي أهل السنة أن الآية حين نزلت سـألت أم سلمة إحدى زوجات النبي (يكن الشيعة نظرة احترام جليلة إلى هذه السيدة، وهي عندهم من أجل زوجات النبي بعد خديجة ولها عند أهل السنة مكانة محترمة أيضا، إذ تعد في جلالة مركزها عندهم بعد خديجة وعائشة)، رسول الله فيما إذا كانت من جملة أهل البيت أم لا، فأجابها النبي: لا، ولكنك على خير.
ومصادر هذا الحديث لا تقتصر على كتاب أو اثنين، بل هي كثيرة في روايات أهل السنة.
ولكن هذه الآية [على وضوحها ذاتيا] تأتي في سياق آيات أخرى، تتحدث قبلها وبعدها عن نساء النبي. فهي مسبوقة بقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} (الأحزاب: 32)
والآية ليست بشأن منح المزايا، بل هي بصدد بيان أن الذنب الذي يصدر من إحدى زوجات النبي تستحق عليه العقاب مضاعفا، لأن الذنب منها ذنبان، ذنب اجتراح الخطيئة، وذنب هتك حرمة زوجها النبي. وعلى المنوال نفسه يكون ثوابها على ما يصدر منها من طاعات مضاعفا.
هذا النسق يجري على السادة (ذرية الرسول) أيضا، إذ يقع العقاب عليهم ضعفا في اجتراح الذنوب والموبقات، ويـأتي الثواب ضعفا أيضا على ما يصدر منهم من طاعات وخيرات.
على سبيل المثال، لو أن سيدا من السادة تناول المشروب، فهو يكون بذلك قد اجترح خطيئتين، خطيئة تناول المشروب، ثم خطيئة هتكه لحرمة النبي، كونه منسوبا إليه، ومن ذريته.
ولا ريب أن مثل هذه الممارسة العلنية من ابن النبي ضد النبي، تكون منشأ لأثر خاص في نفوس الآخرين.
نعود إلى الآيات لنرى أن الضمير في جميعها مؤنث (لستن كأحد من النساء إن أتقيتن) وهو يدل على أن المخاطب فيها هُنّ زوجات النبي.
بيدَ أن الذي يحصل بعد عدة آيات، هو ظهور الضمير المذكر في النص، حين نصل إلى قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم (لا: عنكن) الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ثم يعود بعد ذلك لصيغة التأنيث مجددا.
ولما كان القرآن لا يفعل أي شيء جزافا، فإن ما حصل يتمثل بما يلي:
أولا: لقد تم الحديث هنا عن أهل البيت في حين كان السياق قبل ذلك منصرفا إلى نساء النبي (يا نساء النبي). وبذلك تبدل عنوان - الخطاب - من نساء النبي إلى أهل بيت النبي.
ثانيا: تغير الضمير تبعا لذلك من التأنيث إلى التذكير. ولم يحصل ذلك عبثا أو اعتباطا ولم يأت على سبيل اللغو، بل لا بد أن تكون هناك قضية أخرى يريد أن يتحدث عنها النص، غير تلك التي تضمنتها الآيات السابقة.
لقد ظلّلت الآيات قبل آية التطهير وبعدها، معاني التكليف والأمر لنساء النبي، وقد جاءت وهي محملة بروح التهديد والخوف والرجاء.
ففي ما يدل به على الأمر، نقرأ قوله تعالى لهن: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية...) فالنص يأمر نساء النبي ويتهددهن، ويضعهن ‎، ويضعهن- ضمنا - بين حال الخوف والرجاء، فيرجيهن بالثواب على فعل الخير، ويخوفهن بالعقاب من فعل الشر.
أما مفاد آية التطهير فهو غير مفاد الآيات التي سبقتها والتي تلتها، وآية التطهير جاءت تتجاوز المدح لتتحدث عن التنزيه عن الذنوب والمعاصي، والتطهير من الموبقات.
فالمخاطب في آية التطهير هم أهل البيت أما في الآيات التي سبقتها وتلتها، فالمخاطب نساء النبي. والضمير يختلف تبعا لذلك، فقد جاء بصيغة التذكير في آية التطهير، فيما جاء بصيغة التأنيث في بقية السياق.
بيدَ أن الذي حصل مع ذلك أن هذه الآية التي جاء مفادها مختلفا عما قبلها وبعدها، دُرِجت ضمن تلك الآيات وقطع بها سياقها، تماما كالجملة المعترضة التي ينطق بها متحدث ثم يعود لسياق موضوعه.
وفي الواقع هذا هو سر ما جاء في رواياتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) من تأكيد كبير على أن آيات القرآن يمكن أن تتحدث في بدايتها عن شيء، وفي وسطها عن شيء آخر، وفي آخرها عن شيء [فكرة أو موضوع] ثالث.
وما التأكيد الصادر عنهم في أهمية تفسير القرآن، إلا لأمثال هذه الغايات.
وفي الواقع، لا يقتصر الأمر على رواياتنا وما قاله أئمتنا من أن قوله تعالى:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) يفترق في المخاطب والمضمون عن بقية ما قبله وما بعده من السياق، وأن الآية تتعلق بأولئك (أهل البيت) الذين ضمتهم الواقعة المعروفة، وإنما ينقل ذلك أيضا أهل السنة في رواياتهم.

مثال آخر

تتكرر الحال نفسها في الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم) على نحوٍ أشدّ يثير العجب أكثر. فالسياق {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (المائدة: 1) ثم يتحول لاستثناء موارد منها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، ليصير فجأة إلى قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3) ثم يعود السياق إلى ما كان عليه قبل ذلك (أي قوله تعالى (فمن اضطُر في مخمصة غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم) ثم قوله تعالى في الآية التي تليها (يسألونك ماذا أحل لهم).
والذي يتضح أن الذي نحن بصدده (اليوم يئس الذين...) لا يتسق مع ما قبله وما بعده، وذلك في دلالة على أنه أُدرج في طيّ موضوع آخر ومرّر من خلاله.
والآية التي نعنى ببحثها في جلسة هذا اليوم، جاءت تخضع للمنوال نفـــسه (يعني قـــوله تعــالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك..) فقد جاءت بطريقة بحيث إذا رفعناها من وسط الآيات الأخرى، لا يختل السياق ولا ينقطع، تماماً كما هو عليه الحال أيضا مع (اليوم أكملت) فإذا رفعنا هذه أيضا لا يصاب السياق فيما قبلها وبعدها بالانقطاع، ولا يختل ارتباط النص وتواصله.
فالنصوص موضع الدراسة جاءت وسط آيات أخرى، بحيث لا يمكن أن يقال أنها تتمة لما قبلها، أو مقدمة لما بعدها، بل هي تعبير عن موضوع آخر. والذي يشهد لذلك ما تحكيه الآية (النصوص المعنية) نفسها من قرائن وما يحف بها من روايات ينقلها الشيعة والسنة معا.
ومع انطواء هذه الآيات على خصوصية في المعنى يختلف عن السياق، فإنها دُرِجت في سياق آيات لا شأن لها بها، إذن لابد أن يكون هناك سرّ وراء هذا العمل. فما هو يا ترى السّر وراء هذه المسألة؟

سرّ المسألة

السرّ الذي يكمن وراء هذا المنحى، يمكن أن نستشفه من خلال ما أشارت إليه الآية القرآنية نفسها، كما جاءت إشارة إليه في روايات أئمتنا (عليهم السلام).
ومضمونه أنه ليس هناك من بين أحكام الإسلام وتعاليمه ما هو أقل حظا في التنفيذ، من قضية أهل بيت النبي وإمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
وضآلة هذه المسألة في التنفيذ، تعود للعصبية الراسخة في عمق نفسية العرب، وما تقود إليه من استعداد ضئيل جدا للتفاعل مع هذه الفكرة [ولاية أهل البيت وإمامتهم].
فمع أن النبي الأكرم بلَغَهُ الأمرُ - من السماء - بتنصيب عليّ، إلا أنه كان دائما يخشى المنافقين الذين كان القرآن يذكرهم باستمرار، ويخاف رد فعلهم وقولهم بحسب الاصطلاح الشائع: إنه يمهّد- من خلال هذا الاستخلاف والتنصيب- لعائلته. مع أن نهج النبي (صلى الله عليه وآله) في الحياة يقوم على أساس أن لا يختص بشيء لنفسه، وكانت أخلاقه وأحكام الإسلام يقضيان أن يمتنع بشدة عن كل ما من شأنه أن يمنحه المزايا ويميزه عن الآخرين.
وقد كان هذا الالتزام عاملا كبيرا جدا في التوفيق الذي ناله النبي الأكرم.
لقد كان إبلاغ الأمة بتنصيب علي (عليه السلام) خليفة للنبي، هو أمر الله. ومع ذلك، كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعرف أنه إذا فعل ذلك، فإن عدة من ضعفاء الإيمان ستنبري لتفسير ذلك على أنه مزية اختص بها النبي نفسه (لم يكن هذا حدسا أو مجرد تحليل، بل هو ما قيل بالفعل، ومثاله صاحب آية (سأل سائل بعذاب واقع. للكافرين ليس له دافع) (المعارج: 1-2) وقصتها أن النبي بعد أن نادى في الناس واجتمعوا إليه في غدير خم، أخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه شاع الخبر وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ناقة له حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثم أتى النبي وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا. ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمّك فضّلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من الله؟
أجاب النبي: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.
فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذابٍ إليم. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره، فقتله، وأنزل الله فيه الآية أعلاه. (ينظر: الكشف والتبيان، ص 213).
وعندما نعود إلى قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) نجده مسبوقا بقوله:
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون) فقد عرف الكافرون أن لا جدوى من مواجهة الإسلام بعد أن توطّدَ: (فلا تخشوهم) بل (اخشون) أي تخافوني، لأنه إذا أصاب داخلكم الخراب فسأسلب نعمتي، نعمة الإسلام منكم جريا وراء سنة إبدال النعم عن أي قوم غيروا ما بأنفسهم.
إن (واخشون) هنا كناية على أنكم يجب أن تخافوا على أنفسكم من أنفسكم. وعليه فإن مصدر الخوف هو من الداخل، ولا خوف من جهة الخارج. من جهة أخرى نعرف أن هذه الآية في سورة المائدة وهذه السورة هي آخر ما نزل على النبي، أي إن الآية هذه نزلت في الشهرين أو الثلاثة الأخيرة من عمر النبي، حين كان الإسلام قد توطد وبسط قدرته.
في الآية السابقة تكررت نفس الحال، فقد كان منبثق الخوف من داخل المسلمين أنفسهم، ولم يكن له مصدر من الخارج. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}.
وفي الواقع لا نجد في القرآن آية تدفع النبي وتشجعه لإنجاز عمل غير هذه ومثلها يشبه فعلك حينما تريد أن تشجع شخصا لفعل معين، وهو يخشاه فيقدم رجلا ويؤخر أخرى.
هذه الآية تأمر النبي بإبلاغ ما أنزل إليه، وقد جاءت في سياق يتضمن تهديده من جهة، وتشجيعه ومواساته من جهة أخرى. وفحوى التهديد أنك أن لم تبلغ ما أنزل إليك، فإن جهودك في تبليغ الرسالة تضيع هدرا، هي تواسيه بعدم خوف الناس وخشيتهم (والله يعصمك من الناس).
وحين نعود إلى آية (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم) فإن الشيء الطبيعي أن النبي لا ينبغي أن يخشى الكفار منذ البداية، ولكن الذي يظهر من الآية الثانية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) أن النبي كان قلقا يخشى [المنافقين] ومصدر هذا القلق ومنبثقة هو الداخل الإسلامي نفسه.
لا يغنيني الآن حال تلك الجماعة في الوسط الإسلامي، التي كانت ترفض خلافة علي (عليه السلام) وفيما إذا كانت كافرة باطنا أم لا. إنما تعنيني المحصلة، حيث لم يكن أولئك على استعداد لتقبل خلافة عليّ (عليه السلام).

الشواهد التاريخية

عندما نعود إلى مسار الحوادث التاريخية ونُطلّ على الواقع من منظور علم اجتماع المسلمين، نجده يحكي هذه المحصلة وينطق بها [عدم الاستعداد لتقبل خلافة أمير المؤمنين] لذلك نجد عمر يصرح بأنهم لم يختاروا عليا للخلافة حيطة على الإسلام كما يقول، لأن القوم لا ينقادون إليه ولا يقبلونه (ليس أدل على ما يذكره المؤلف في المتن من العودة إلى النص التاريخي للواقعة، حيث تشير إلى أن حوارا جرى عن الخلافة وحق الإمام على فيها، إذ ذكر ابن عباس أن النبي أوصى لعلي بها، فرد عليه عمر بنص قوله: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام. ولا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (شرح نهج البلاغة، ج3، ص97).
وفي موقع آخر يدخل عمر بن الخطاب في حوار مع عبد الله بن عباس، فيذكر له عمر أن قريشا [امتنعت عن الإمام عليّ] لأنها كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة (الإمامة) لهذا البيت من بني هاشم، ولم تطق أن ترى هذه الخصلة فيهم، فردّ عليه ابن عبّاس بجواب ينم عن كمال النضج، واستدل بآيات من القرآن محكمة في هذا المجال (يبدو لمن يراجع التاريخ أن عمر كان كثيرا ما يحاور ابن عباس فيما جرى وما آلت إليه الأمور، وما يمكن أن تصير إليه قضية الخلافة).
وفي واحدة من هذه الحوارات - وهي التي يعينها المؤلف - سأل عمر بن عباس: يا بن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. رد عمر: لكني أدري. قال ابن عباس: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتجحفوا الناس جحفا، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت وأصابت.
فقال ابن عباس: أيليط أمير المؤمنين عني غصة فتسمع؟ قال: قل ما تشاء. قال ابن عباس: أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم): فأما قولك إنا كنا نجحف، فلو جحفنا بالخلافة لجحفنا بالقرابة، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قال الله في حقه (وإنك لعلى خلق عظيم)، قال له: (واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين).
وأما قولك إن قريشا اختارت، فأن الله تعالى يقول: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت.
فقال عمر: على رسلك يا ابن عباس، أبت قلوبكم إلا بغضا لقريش لا يزول، وحقدا عليها لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي طهره الله وزكاة، وهم أهل البيت الذين قال الله لهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وأما قولك حقدا، فكيف لا يحقد من غصب شيئة ويراه في يد غيره وذلك إلى آخر الحوار بينهما الذي ذكره من المؤرخين الطبري وابن الأثير وصاحب شرح نهج البلاغة. (ينظر مثلا: الكامل في التاريخ ج3، ص62، وشرح نهج البلاغة، ج3، ص106).
لقد كانت هذه الحالة انعكاسا لواقع يعيشه المجتمع الإسلامي، ويعبر عنها بأشكال مختلفة، فالقرآن عبر عنها بأسلوبه، وعبر عنها عمر بطريقته، كما عبر عنها بعضهم بما ذهبوا إليه من أن عليا (عليه السلام) وترهم في كبرائهم، حيث قتل كثيرا من رؤوسهم في الحروب الإسلامية، فضمرت له العرب ذلك بما تنطوي عليه نفسيتهم من أخذٍ بالثأر، ولم تنس من قتل من آبائهم وإخوانهم، ثم [ردّت عليه] في طبيعة موقفها الرافض لخلافته، إذ لم تره مناسبا لها.
وبهذا الكلام تمسّك جماعة من أهل السنة ليصطنعوا منه ذريعة في موقفهم فهم وإن سلموا له بمقام الفضيلة والأرجحية على غيره، إلا أنهم ذهبوا للقول بأن له أعداءً كثراً [وهذا ما منع عنه الخلافة].
نتبين مما مر أن هناك ضربا من ضروب القلق كان سائدا منذ زمن النبي يخشى حالة التمرد على هذا الأمر [إمامة أهل البيت وخلافتهم].
وربما كان السر وراء أسلوب القرآن في ذكره هذه الآيات من خلال القرائن والدلائل يتمثل في أن أي إنسان سويّ خالٍ من الغرض، يستطيع أن يفهم المراد. ويبدو أن القرآن لم يُرِدْ أن يعبر عن مراده بصيغة تسمح لأُولئك الذي يبغون التمرد على القرآن، أن يكتسب تمردهم صيغة التمرد المباشر في مقابل القرآن والإسلام.
لقد جاء هذا الأسلوب القرآني وكأنه يريد أن يقول: على تلك الجماعة التي سوف تتمرد في كل حال، أن لا يكتسب تمردها صيغة الرد المباشر على القرآن بصراحة سافرة، وإنما لها - على اقل تقدير - أن تصطنع ذريعة لموقفها، وتسدل عليه ستارا.
هذا التقدير هو الذي يعلل لنا مجيء آية التطهير وسط تلك الآيات، ولكن بمقدور أي إنسان عاقل متدبر أن يفهم أن آية التطهير هي شيء آخر - يختلف عن السياق الذي تقع فيه بقية الآيات -.
الشيء نفسه يقال بالنسبة لآية: (اليوم أكملت لكم دينكم)، والكلام نفسه ينطبق على آية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).

آية (إنما وليكم الله)

ثم آيات أخرى تثير الفكر وتدفع الإنسان لكي يفهم أن هناك أمرا ما. وعندما يستعين الإنسان بالقول المتواترة يثبت لديه ذلك الأمر.
من هذه الآيات، قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة/55). تنطوي الآية على تعبير عجيب، ذلك أن إعطاء الزكاة في حال الركوع لا يعبر عن ممارسة عامة تذكر كأصل كلي، وإنما يفيد السياق أن الآية تشير إلى واقعة معينة (قال الفخر الرازي في تفسيره: روى عكرمة عن ابن عباس أنها في علي.
كما روي عن عبد الله بن سلام، قال: لما نزلت هذه الآية قال يا رسول الله، أنا رأيت عليا تصدق بخاتمة على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه.
وروي عن أبي ذر قال: صليت مع رسول الله (صلى الله عليه آله) يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء، فقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما أعطاني أحد شيئا، وعليّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمني وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك، فقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: (رب أشرح لي صدري ويسر لي أمري) إلى قوله (وأشركه في أمري) فأنزلت قرآنا (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، فأشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به أزري.
قال أبو ذر: فو الله ما أتم (رسول الله عليه وآله) هذه الكلمة حتى نزل جبرائيل (عليه السلام).
فقال: يا محمد أقرأ: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنو الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
(ينظر: التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج12، ص 26).
القرآن هنا لم يصرّح [بالواقعة واسم صاحبها] خشية التمرّد المشار إليه آنفا، ذلك أن التمرد في مواجهة التصريح لو وقع، سينظر إليه من قبل الصديق والعدوّ، على أنه تمرد ضدّ القرآن، وهو في الوقت نفسه استخدم الكناية وعبر عن المراد بصيغة يفهم من خلالها إي إنسان لا يشوبه الغرض أن وراء الآية أمرا يشير إلى قضية بعينها.
فقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} لا يعبر عن وضع عادي، وإنما يُشير إلى واقعة استثنائية حدثت. والسؤال عندئذ: ما هي هذه الواقعة؟ نجد في هذا المجال أن كلمة الشيعة والسنة اجتمعت على أن الآية نزلت بشأن علي بن أبي طالب (نقرأ في الدر المنثور في ظلال الآية الكريمة: أخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عمار بن ياسر، قال وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه بأعطاه السائل، فأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون). فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أصحابه ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاده. (ينظر: الدر المنثور، السيوطي، ج2، ص 293).

الإمامة عند الشيعة مفهوم يناظر النبوّة

آية في القرآن عجيبة تقع في سياق مجموعة هذه الآيات عن الإمامة وهذه الآية ترتبط بشخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل هي تتصل بمسألة الإمامة نفسها، وفي نطاق المعنى الذي عرضناه ونعود للإشارة إليه مجددا.
ذكرنا - فيما سبق - أنه خطأ كبير، ذلك الذي وقع به المتكلمون المسلمون منذ القديم، وهم يطرحون الإمامة في صيغة السؤال التالي: ما هي شرائط الإمامة؟ فهذه الصيغة في الطرح تستبطن فرضية فحواها أن أهل السنة يقبلون الإمامة كما نقبلها نحن الشيعة، وغاية ما هنالك أننا نختلف معهم في شرائطها، إذ نقول نحن بالعصمة والنص شرطين في الإمام، ولا يعتقد الطرف الثاني بهما.
وواقع الحال أن الإمامة التي نعتقد بها نحن الشيعة لا يعتقد بها السنة أساسا، وما يعتقد به أهل السنة باسم الإمامة هو تعبير عن الشأن الدنيوي في الإمامة، الذي يُعدّ أحد شؤونها.
مثال ذلك: هو ما نلتقي به في مضمار النبوة، فأحد شؤون النبي أنه كان حاكما للمسلمين، بيدَ أن ذلك لا يعني أن تكون النبوة مساوية للحكم والحكومة، النبوة بحدّ ذاتها حقيقة تنطوي على آلاف القضايا، ولكن من شؤون النبي - كما أسلفنا- أنه بوجوده لا يحتاج المسلمون إلى حاكم آخر، لأنه هو الحاكم.
ما يذهب إليه أهل السنّة أن الإمامة تعني الحكومة (الإمامة تساوي الحكومة) وأن الإمام يعني الحاكم الذي يوجد بين المسلمين، وهو من الحيثية شخصٌ من المسلمين يجب عليهم انتخابه لممارسة الحكم.
وبهذه الصيغة لم يتعدَّ أهل السنّة في الإمامة أكثر من حدّ الحكومة.
أمّا الإمامة عند الشيعة فهي تأتي تالي تلو النبوّة، فأُولو العزم من الأنبياء هم الذين جمعوا الإمامة إلى النبوة، وكثير من الأنبياء لم يكونوا أئمة، أما أولو العزم فقد بلغوا رتبة الإمامة في آخر المطاف.
ومحل الشاهد في الكلام: أننا لا نسأل عن الحاكم من يكون في حال وجود النبي، ذلك أن للنبي جنبة فوق بشرية (في صلته بالسماء وانفتاح الغيب عليه) وكذلك لا معنى للسؤال عن شخص آخر يتولى زمام الحكم بوجود الإمام. إنما يمتلك الحديث عن هذا الشخص - مبرراته الموضوعية - في حال عدم وجود الإمام (وذلك بافتراض عدم وجوده مطلقا، أو لغيابه كما هو الحال في زماننا).
ما يجب أن نحذر منه هو خلط مسألة الإمامة بمسألة الحكومة، ثم أن نتساءل على أساس ذلك الخلط: ما هو موقف أهل السنة، وما هو موقفنا؟ فالإمامة مسألة أخرى غير الحكم، وهي عند الشيعة ظاهرة ومفهوم يناظر النبوة في أعلى درجاتها.
نخلص مما مرّ في الفارق بين الشيعة والسنة، إلى أننا نعتقد بالإمامة، والسنة لا يقولون بها من الأساس، وليس الأمر أنهم يعتقدون بها ويختلفون معنا في شروط الإمام، بأن يضعوا له شروطا غير التي نعتقد بها.

الإمامة في ذريّة إبراهيم

الآية التي نريد بحثها، تتصل بمفهوم الإمامة بالمعنى الذي يعتقد به الشيعة. إن ما يذهب إليه الشيعة في هذه الآية أنها تفيد وجود حقيقة أخرى باسم الإمامة، وهذه الحقيقة لم ينحصر وجودها بعد رحيل نبي الإسلام، بل هي تعود إلى زمن ظهور الأنبياء، وهي باقية في ذرية إبراهيم ماكثة فيهم إلى يوم القيامة.
والآية التي نعنيها قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة/124).

إبراهيم مبتلىً

لقد تحدث القرآن عن الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم، وأشار لثباته في مواجهة نمرود والخط النمرودي، وكيف أنه أبدى استعداده كي يحرق بالنار في الثبات على المواجهة، ثم أشار إلى بقية ما وقع له.
من ذلك، الأمر المدهش الذي نزل به، والذي لا طاقة لأحدٍ به، إلا الإنسان الذي يسلّم لأمر الله تماما ويعبده مطلقا.
لقد رزق (عليه السلام) وهو في شيخوخته - من زوجته (هاجر) التي كانت عجوزا في السبعين أو الثمانين- ولد كان هو الأول جاء بعد انقطاع الذرية. وفي هذه اللحظة يأتيه الأمر أن يغادر الشام وسورية ويذهب تلقاء الحجاز، حيث عليه أن يترك زوجته ووليده وحيدين هناك، ويغادرهما. لم يكن هذا الأمر يتسق مع أي منطق سوى منطق التسليم المطلق فقد كان ذلك أمر الله (كان يحس ذلك عن طريق الوحي) فهو إذن مُطاع. يقول تعالى - فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم37).
كان إبراهيم يعرف عن طريق الوحي الإلهي مآل الأمر ونهايته، ولكنه خرج من هذا الاختبار على أحسن ما يكون.

ذبح الابن

المسألة الثانية التي جاءت أمضى من الأولى، هي الأمر بذبح ولده. فقد جاء الأمر أن يذبح ولده بيده في منطقة منى، التي نحظى فيها الآن بإحياء ذكرى ذلك التسليم المطلق الذي أبداه إبراهيم، بتقديمنا للأضاحي والقرابين.
بعد أن تكرّر عليه الأمر في عالم الرؤيا مرتين وثلاث، أمسى على يقين أنه إزاء الوحي الإلهي، لذلك فاتح ولده بالقضية، فما كان من الابن إلا أن قال بتسليم ودون نقاش {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} (الصافات102).
يأتي القرآن ليجسد اللوحة على نحو مدهش عجيب، وهو يقول: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (الصافات103). أي حينما أمضيا الأمر، بحيث لم يشك إبراهيم أنه فاعلٌ وأنه ذابح ولده لا محال، وأيقن إسماعيل أنه مذبوح.. لما فعلا ذلك بمنتهى الاطمئنان واليقين جاءهما النداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَد صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات104-105).
والمعنى أن هدفنا لم يكن ذبح إسماعيل وفصل رأسه عن جسده، ولم يصدر القرآن بأمر ينهى فيه إبراهيم عن الذبح، بل قال (قد صدقت الرؤيا). أي: بتنفيذك عمليا ما هو مطلوب انتهى المشهد، لأن الهدف لم يكن - كما ذكرنا - ذبح إسماعيل، بل ظهور الإسلام والتسليم منك أنت الأب ومن ولدك. وهذا ما كان.
النص القرآني واضح في أن إبراهيم ‎ (عليه السلام) وُهِبَ الذرية على كبر، فهذه زوجه عندما جاءت الملائكة تبشره بالغلام، تقول: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}. ردت الملائكة {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هود: 72-73).
لقد جاءت الذرية إبراهيم إذن وهو شيخ، وعندما جاءته الذرية كان نبيا، ولما كانت الآيات التي جاءت في القرآن عن إبراهيم (عليه السلام) كثيرة، فالمستفاد منها، أنه وُهب الذرية وهو على كبر سن في السبعين أو الثمانين، بعد أن كان نبيا.
ثم بقي حيّاً بعد ذلك عقدا من السنين أو عقدين حتى كبر إسحاق وإسماعيل، وقد بلغ إسماعيل من العمر مبلغاً شارك أباه إبراهيم (عليه السلام) في بناء الكعبة.
يشير قوله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة/124). إلى أن الإمامة وهبت لإبراهيم بعد أن أتم ما نزل به من ابتلاءات. والسؤال: متى كان ذلك، وبأي زمان تتصل الآية؟ هل هي محددة بأوائل عمر إبراهيم؟ الشيء المؤكد أنها لا شأن لها بفترة ما قبل النبوة من حياة إبراهيم، لأنها تتحدث عن الوحي، وهو شأن من شؤون النبوة.
هي إذن تتصل بمرحلة النبوة، ولكن هل كان ذلك أوائل عهد إبراهيم بالنبوة؟ كلا، بل هي ترتبط بأواخر عهد النبوة، بدليلين، الأول: أنها تتحدث صراحة عن أن ذلك حصل بعد الابتلاءات. وما أبتلى به إبراهيم حصل جميعه في عهد نبوته، وقد نزل به أهمها وهو في أواخر عمره. الثاني: تذكر الآية في سياقها الذرية في قوله:
(ومن ذريتي) أي كان له حين الآية ذرية [والذرية جاءته آخر عمره وهو شيخ بنص القرآن].
الآية تقول لإبراهيم: إنا نريد أن نهبك آخر عمرك شأنا آخر، ومنصبا مستقلا [غير النبوة، لأنه كان نبيا] يعبر عنه قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا). الشيء الواضح أن إبراهيم كان قبل الهبة الجديدة نبيا وكان رسولاً، طوى المراحل جميعا إلا واحدة، لم يكن ليبلغها إلا بعد أن يتم جميع الابتلاءات (في الحديث الشريف: إن الله (تبارك وتعالى) اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله أتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم، قال: ومن ذريتي. (الكافي، ج 1، ص175، كتاب الحجّة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، الحديث2).
ألا يشير ذلك كله إلى أن في منطق القرآن حقيقةً أُخرى أسمها الإمامة؟
والآن ما معنى الإمامة؟

الإمامة عهد الله

تعني الإمامة أن يبلغ الإنسان حدّ ما يُصطلح عليه بالإنسان الكامل، وهذا الإنسان يتحول بتمام وجوده إلى مقتدىً للآخرين. وعندما جُعلت الإمامة لإبراهيم، فكَّر بذريّته فوراً، فجاءه الجواب لا ينال عهدي الظالمين.
هذا النصُّ أطلق على الإمامة عنوان عهد الله. من هنا ما ذهبنا إليه نحن - الشيعة - من أن الإمامة التي نعتقد بها هي أمرٌ يرتبط بالله، ولهذا ترى القرآن ينسبه إليه سبحانه، فيقول عهدي، فهي ليست عهدا من عهود الناس.
وعندما نعرف أن الإمامة هي غير الحكومة، فلا نعجب إذن أن تكون أمرا مرتبطا بالله.
هناك من يسأل قائلا: هل الحكومة أمر يرتبط بالله أم بالناس؟ نقول في الجواب: إن هذه الحكومة التي نتحدث عنها في هذا المجال هي غير الإمامة.
الإمامة عهد الله، وعهد الله لن يكون في الظالمين من ذرية إبراهيم.
لم يُجِب القرآن على سؤال إبراهيم (ومن ذريتي) بالنفي المطلق، كما لم يأت بالتأييد المطلق. بل فكّك بين فئتين من الذرية، ولأنه استبعد الظالمين منهم من دائرة هذا العهد، فهو يبقى إذن في غير الظالمين. وهذه الآية تدل على بقاء الإمامة في ذرية إبراهيم أجمالا.
وآية أخرى
ثم في القرآن آية أخرى في هذا المضمار، هي حول إبراهيم أيضا، يقول فيها تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (الزخرف: 28). وفي هذه الآية دلالة على أن الإمامة حقيقة باقية في نسل إبراهيم.

مَن هو الظالم؟

تأتي في سياق الآية مسألة الظالمين، ويستدل الأئمة (عليهم السلام) على الظالمين بهذه الآية دائما. والسؤال: من هو المقصود بالظالم؟
الظالم في القرآن، هو كل إنسان يلحق الظلم بنفسه أو بالآخرين.
أما في عرف الناس فإنا نطلق صفة الظالم دائما على الإنسان الذي يتجاوز على الآخرين ويتعدى على حقوقهم، وذلك بخلاف القرآن الذي يعمم المفهوم ليشمل الذي يتجاوز على نفسه والذي يتجاوز على الآخرين أيضا.
ثم في القرآن آيات كثيرة تتناول الظلم الذي ينزل بالنفس.
ينقل العلامة الطباطبائي [صاحب تفسير الميزان] كلاما عن أحد أساتذته حول ما سأله إبراهيم (عليه السلام) لذريته، أن مآل هذه الذرية من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيات التالية:
الأولى: أن نفترض أن هذه الذرية ظالمة على الدوام من أول عمرها إلى أخره.
والثانية: أن نفترض أنها كانت ظالمة في أول عمرها ثم آبت إلى الصلاح آخر العمر.
الثالثة: أن تكون صالحة أول عمرها، ثم آلت إلى الظلم بعد ذلك.
الرابعة: أنها لم تكن ظالمة في أي وقت من الأوقات.
ثم يقول: من المحال أن يطلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة - وهي بهذا الشأن العظيم، حيث وهبت إليه بعد النبوة والرسالة - لمن كان ظالما من ذريته من أول أمره حتى آخر حياته، كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريته صالحاً في مبدأ حياته ثم آل إلى الظلم آخر عمره.
يبقى إبراهيم (عليه السلام) إذا طلب الإمامة لذريته، طلبها للصالحين منهم. وهؤلاء على قسمين، الأوّل: لازَم الصلاح من أول حياته وبقيّ على ذلك حتى آخر عمره. والثاني: من كان ظالما في مبدأ حياته ثم آب إلى الصلاح بعد ذلك.
عندما ينحصر مدار سؤال إبراهيم في هاتين الفئتين من ذريته، فإن الطلب يشمل من كان ظالما فيما مضى وتلوث بالظلم في عهدٍ ما، ثم أصبح صالحا الآن.
ولكن القرآن يقول: (لا ينال عهدي الظالمين) أي ينفي أن ينال الإمامة من كانت له سابقة في ظلم.
ولما كان القرآن ينفي - الإمامة - عمَّن هو صالح الآن، وكان ظالما فيما مضى، فالشيء المؤكد أن لا يدخل في إطار السؤال الظالم بالفعل سواء أكان ظالما على طول الخط، أو كان صالحا ثم آل إلى الظلم فعلا.
وبهذا ينفي القرآن الإمامة عن كل إنسان كان في سابقته ظلم [وبنص الإمام الرضا: فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة] (الكافي/ ج1، ص199 من حديث شامل للإمام علي بن موسى الرضا في الإمامة).
وهذا ما تستدل به الشيعة من استحالة أن تكون الإمامة فيمن أمضى عهدا من عمره في الشرك.

الروابط
المقالات: الإمامة عند الفريقين،
خلافة الإمام علي (عليه السلام) في كتب السنة،
الإمامة في القرآن،
إمامة الإمام الحسين (عليه السلام) *،
إمامة الإمام الحسن (عليه السلام) *
مواقع الإنترنيت: موقع 14 معصوم عليهم السلام
مفاتيح البحث: إمامة أهل البيت،
مفهوم الإمامة،
عظم شأن الإمامة،
الخلافة،
القرآن الكريم،
الإمامة،
...

الفهرسة